تصوّر فيفيان يي ورانيا خالد في مفتتح هذا المقال مشهداً سينمائياً يلخّص واقعاً اجتماعياً متجذراً، حيث يعود مسري، بطل فيلم "عسل أسود"، إلى القاهرة بعد عشرين عاماً في أميركا، ويصطدم من جديد بإهانات الحياة اليومية، خاصة عندما يطلب موظف جوازات “كوب شاي بمئة ملعقة سكر”، في إشارة فجة إلى رشوة يطلبها مقابل تسهيل الخدمة.

 

ويشير ذا صن إلى أن ثقافة "الإكراميات" تجاوزت حدود المجاملة لتتحول إلى أداة ضغط غير معلنة داخل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، في ظل أزمات اقتصادية متلاحقة غيّرت القيمة الفعلية للنقود وأرهقت الطبقة الوسطى والفقيرة.

 

الإكرامية بين العادة والابتزاز

 

يرتبط تقديم الإكراميات في مصر بعادات اجتماعية قديمة، لكن الواقع يكشف انزلاقها نحو ابتزاز مقنّع. يدفع المواطن مالاً لتجاوز طابور أو لتسريع خدمة أو حتى للحصول على حقه الأساسي. يتلقى حرّاس المواقف وعمال التوصيل والبوّابون هذه المبالغ كما يحدث في دول أخرى، لكن الاستثناء المصري يظهر عندما يطالب بها موظفو الدولة والممرضات وموظفو الاستقبال في العيادات، بل يطلب بعضهم مقابلاً بسيطاً لجلب كوب ماء لمريض أو مساعدته على تغيير ملابسه.

 

تبدو المفارقة أوضح عند مقارنة قيمة الرشوة في الفيلم عام 2010 بحاضر مثقل بالتضخم. كانت مئة جنيه تعادل قرابة 18 دولاراً، بينما تنخفض اليوم إلى نحو دولارين فقط، وهو مبلغ لا يكاد يكفي لتلبية أبسط الاحتياجات. يصف مراقبون هذا التحوّل بأنه علامة على انهيار تدريجي لقيمة العملة وتأثير ذلك على أبسط تفاصيل الحياة.

 

تضخم يلتهم كل شيء

 

يسجّل الاقتصاد المصري منذ بداية 2022 موجة تضخم حادة تصل إلى ذروة 38% في سبتمبر 2023، ثم تتراجع إلى 11.7% بعد حصول البلاد على حزم إنقاذ من صندوق النقد الدولي والإمارات والاتحاد الأوروبي. رغم هذا التراجع، تظل الأسعار ناراً تلتهم مداخيل المواطنين، وتبقى الإصلاحات الاقتصادية بطيئة وقاسية.

 

تروي مارينا كالداش، مديرة وسائل تواصل اجتماعي في القاهرة، تجربتها مع مستشفى تجاهلت فيه الممرضات طلبات والدها المصاب بفشل كلوي إلى أن بدأت تدفع لهن يومياً إكراميات بسيطة. ترى أن ما كان يكفي سابقاً بعشرة أو عشرين جنيهاً لم يعد ذا معنى اليوم. تقول إن التضخم طال كل شيء، حتى الإكرامية نفسها.

 

يروي المقال أيضاً واقعة تجديد رخصة قيادة اضطرت خلالها كالداش لدفع ألف جنيه لموظف سمح لها بتجاوز الطابور، مع اعترافها بأن المبلغ سيصل اليوم إلى 1800 جنيه إن تكررت الحادثة. يظهر هنا تناقض واضح بين رفضها المبدئي للرشوة وقبولها العملي لها كحل اضطراري يختصر الوقت والجهد.

 

بين الصدقة والضرورة القاسية

 

يفسّر البعض الإكرامية بوصفها فعلاً خيرياً أو واجباً دينياً يساهم في سد فجوة الفقر المتسعة. تشير إحصاءات رسمية إلى أن نحو 30% من المصريين عاشوا تحت خط الفقر عام 2019، ويرجّح ارتفاع النسبة بعد الجائحة والأزمات الاقتصادية الأخيرة وتقليص دعم الخبز والغاز والكهرباء.

 

تقول مي محمد صادق، معلمة لغة إنجليزية، إنها ترفع قيمة ما تعطيه لحراس السيارات وعمال المتاجر من خمسة جنيهات إلى عشرة أو خمسة عشر جنيهاً، بدافع التعاطف لا المجاملة. ترى أن النية تغيّرت، فالدافع لم يعد فقط قول "شكراً"، بل محاولة تخفيف ثقل الحياة عن آخرين.

 

رغم ذلك، يعبّر كثيرون عن انزعاجهم من ظاهرة "المساعد القسري"، حيث يظهر شخص فجأة ليقدّم خدمة لم تُطلب منه، ثم يلمّح بوضوح إلى حقه في المال. تصف صادق هذه المواقف بأنها مزعجة، خاصة عندما تركن سيارتها بنفسها ثم يطالبها أحدهم بإكرامية مقابل لا شيء.

 

أما من جهة المتلقين، فينظر كثيرون إلى الإكرامية كوسيلة بقاء في اقتصاد يصفه البعض بالرحيم على الأغنياء والقاسي على الفقراء. يروي عمرو أحمد، فني كمبيوتر في الخامسة والخمسين، أنه دفع خمسين جنيهاً لموظف استقبال في عيادة ليحصل على موعد مبكر، بينما كان يدفع خمسة جنيهات فقط في السابق. يعترف بأنه يشعر أحياناً بالحرج عندما يعطي مبلغاً زهيداً، لأنه يعرف كم بات قليلاً اليوم.

 

يكشف هذا المشهد المتشابك عن مجتمع يتحرك بين ثقافة متوارثة وواقع اقتصادي ضاغط، حيث تتحول الإكرامية من لفتة ودّ إلى شرط غير مكتوب لتسيير الحياة. وبين من يراها إحساناً ومن يعايشها ابتزازاً، تبقى مصر واقفة على حافة نقطة تحوّل اجتماعية تعكس عمق أزمتها الاقتصادية وتحوّلات قيمها اليومية.

 

https://www.thestar.com.my/news/focus/2025/11/24/tipping-point-in-egypt